١٧‏/٠٨‏/٢٠٠٨

Since 1983

أتممت خمسًا وعشرين عامًا، وهى نقلة غريبة بحق.. فالعام الذى يقفز بك من سن الرابعة والعشرين إلى الخامسة والعشرين يساوى عشرات الأعوام.. والله وحده يعلم ما إذا كانت تلك السنون الفائتة هى القسط الأكبر من عمرى أو القسط الأصغر، أو ربما كانت هى عمرى كله، ولكن لا يمكن لأحد مرت على حياته خمس وعشرون عامًا، ألا تكون له ملاحظات وقناعات ورؤى استنتجها بمحض إرادته، أو فرضت هى نفسها على حياته فرضًا.. بالتأكيد هى أعوام حملت الكثير، لكن السؤال الأهم.. هل حملت أنا لها شيئًا؟ ربما نعم وربما لا.. على أية حال فلست أنا من يجيب على هذا السؤال.
فلنعد إلى ما بدأنا به.. كيف كان ربع قرن من الزمان مر كعشية وضحاها؟ وكيف يمكن ترجمة تلك السنين إلى شخصيات أو مواقف أو أحداث أعتقد أنها مهمة؟

فلنبدأ بالشخصيات.. أرى أن عدد ما بحياتى من شخصيات أقل بكثير من أى شخص آخر، وأجد فى ذلك ميزة كبيرة، فما جدوى أن تعرف الكثيرين الذين يعيشون دائمًا على هامش حياتك، ولا يدخلون أبدًا إلى شريط الأحداث، بل ولن يفعلون ذلك يومًا؟

عبد الفتاح الشناوى: لمن لا يعرف سوى اسمى الثنائى فقط "مهند الشناوى"، فهذا الرجل هو أبى.. أبى الذى أختلف معه أحيانًا فى أفكار وقناعات معينة، لكننى تعلمت منه الكثير.. ودائمًا ما اتفقت آراؤنا فى معظم المواقف، رغم اختلاف رد فعل كل منا تجاه الموقف ذاته، وقد كان ذلك سببًا لاتهام وُجّه إلىّ، هو أننى لست ككل الأولاد.. يميلون دائمًا إلى أمهاتهم.. أولاً أنا لا أرى ذلك اتهامًا على الإطلاق، ثانيًا إن اتفاقى أو اختلافى مع أحد فى رأى أو وجهة لا يرتبط مباشرة بحبى له أو ميلى نحوه ضد طرف آخر، وبالتالى فإن هذا الاتهام غير صحيح بالمرة.. كنت أشعر أحيانًا فى طفولتى أنه قاسٍ إلى حد ما، ولكنى الآن أرى أن تلك القسوة تركت داخلى بصمة لا أقوى على تجاهلها، وعندما أقارن نفسى بأشخاص تُرك لهم الحبل على الغارب، ونالوا نصيبهم من "الدلع"، وغرقوا فى بحور الاستهتار، أرى أن قسوته كانت فى محلها وفى وقتها، بل سأطالبه بمزيد منها لو عدت طفلاً.

حلا محمود: هى ابنة أخى التى أحببتها كما لم أحب أحدًا من قبل.. وكم تمنيت أن أمتلك واحدة منها.. وقد أكدت لى ولعى بالأطفال حتى سن معين، وولعهم بى حتى سن معين أيضًا.. هى بوابتى إلى العبور نحو العالم الآخر الذى أحب.. عالم الأطفال، وأعتقد أننى كنت أشبهها كثيرًا وأنا فى سنها "عشرة أشهر"، ولا أعرف لماذا أرى بها نفسى كلما نظرت إليها، ولأننى بالطبع لا أذكر حرفًا من ذلك، فأنا أجرب عليها لأعرف كيف كنت أتصرف وأنا طفل.

نادر مصطفى: رأيت أنواعًا كثيرة من الصداقات، لكن صداقتى بذلك الأخ صداقة من نوع خاص، ودرجة فهم كل منا للآخر فاقت كل حد.. ما بينى ونادر ليس مجرد صداقة تحتفل بعيد ميلادها الثامن، وإن كانت كذلك فهى صداقة فى مرحلة الطفولة، لأننى أعرف أصدقاء عمر صداقتهم يزيد على الثلاثين عامًا مثلاً، أما صداقتنا فقد تجاوزت مئات الأعوام، أشعر أحيانًا أننى أجلس بداخل رأسه وأسبح فى تلافيف مخه، وأعرف تمامًا فيم يفكر فى تلك اللحظة بالذات.. الوجه الآخر لذلك هو أن كلانا لا يستطيع أن يحبس معلومة عن الآخر، أو هكذا أظن.. بمعنى آخر فنحن نعرف بعضنا البعض أكثر من اللازم.. حتى أن كثيرين ممن يعرفوننا فى مجال العمل لا يستطيعون تمييز كلانا عن الآخر، رغم الاختلافات الشكلية الرهيبة بيننا، والتى لا تدع للخلط بيننا مجالاً من الأساس.

محمد جهاد: هو صديق فلسطينى زاملنى فى مدرسة "درع الثورة الإعدادية"، حيث درست الصفين الأول والثانى الإعدادى فى مدينة طبرق الساحلية الليبية.. لا أعرف أين هو الآن، بل لا أعرف أصلاً إن كان حيًا أو ميتًا.. ربما كان شهيدًا.. كانت تجربة معرفته تجربة قاسية لطفل فى الحادية عشر من عمره، فمحمد جهاد هو أول من علّمنى كيف يكون الإنسان عندما يلتهمه القهر والبؤس، وكيف يبدو الفأر الحبيس فى المصيدة دون ذنب سوى أنه مجرد فأر.. كان الفلسطينيون النازحون إلى بلاد عربية قريبة لفلسطين يملأون ليبيا، تشعر فى بعضهم بالبرود إلى درجة الوقاحة أحيانًا، وأحيانًا أخرى تشعر أنهم أناس ضعفاء مساكين حلمهم فقط أن يعيشوا دون أن يقتلهم أحد، وقد كان محمد واحدًا من هؤلاء.. لم يكُف يومًا عن الحلم بالعودة إلى فلسطين التى لم يكن يذكرها، ولم ينسَ يومًا أن يحدثنى عن عائلته التى لا يعرفها، وعن المشاكل التى يواجهها هو وأسرته فى ليبيا أثناء معيشتنا هناك.. كان الولد يقطر حزنًا رغم الابتسامة التى لم تتركه أبدًا، وكنت أشعر بضيق حاله دومًا ولم أملك سوى الدعاء له بفك الكرب.

أخطأت؟.. وكيف لى ألا أفعل؟ فلو أن أحدًا لا يخطئ، لكان أجدر به أن يزور الطبيب النفسى، يعيده من جديد إلى درب الأخطاء، ولو اعتقد أحد أنه لا يخطئ لكان اعتقاده ذاته أكبر خطأ اقترفه.. المهم فيم أخطأت أنا؟
لم أرتكب أخطاءً جسامًا فيما مضى أو هكذا أعتقد.. فأنا لم أقتل مثلاً ولم أسطُ على مصرف ولم أختطف طائرة، أما خطأى الذى أراه كبيرًا أنى لم أقرأ بما يكفى فى مجالات مختلفة عندما كنت طفلاً، فقد كانت ميولى العلمية طاغية على كل تفكيرى، وكنت أتحاشى قراءة كل ما هو خلاف ذلك، وهو خطأ انتبهت إليه فى وقت متأخر، وسعيت إلى تداركه لاحقًا.

السؤال عن الخطوبة والزواج.. سؤال يلح على الآخرين –لا سيما الصديق الحبّوب عمرو زقزوق– أكثر ما يلح علىّ، وحتى الآن لم أعرف لذلك سببًا واضحًا، هل يحمل الآخرون همّى أكثر مما أحمل؟
نويت فى وقت ما أن أتقدم إلى فتاة، لكن شىء ما جعلنى أخاف.. مواقف رأيتها أمام عينى قالت لى أن الوقت لم يحن بعد، أو أن بركانًا سينفجر فى وجهى إذا ما فعلت، فقررت أن أتمهل قليلاً، لكن يبدو أننى تأخرت كثيرًا حتى لم تعد من نصيبى.. ندمت؟ لا أعرف.. ولكن هكذا تسير الدنيا.. ربما أكون مخطئًا فيما فعلت، لكننى فعلت ما فعلت وكان وقتها هو الصواب.. كان لا بد لى أن أتقهقر.. والأمر قسمة ونصيب على كل حال.

فى الطريق من 1983 إلى 2008، كانت هناك علامات بارزة غيرت مجرى حياتى أحيانًا، أو أثرت بشكل مباشر فى طريقة تفكيرى ونظرتى للأمور، أذكر منها هنا موقفين.
فى مايو عام 2000، أصبت بكسر فى أنفى بعد ارتطام قوى بالأرض فى مباراة كرة قدم، كان ذلك قبل امتحانات الثانوية العامة بأسابيع، ولم أكن أنتظر مفاجأة أجمل من تلك تحدث لى فى هذا التوقيت بالذات.. عشت ساعتين من الألم الجسدى الرهيب كما لو أننى كنت أحاول اجتياز دورة تدريبية مكثفة فى الألم.. ألم من النوع الذى يعتصر الروح ذاتها ويدنو بها من الموت.. نعم.. أردت أن أموت وقتها لأنى بالفعل لم أكن أحتمل، ناهيك عن الإصابات النفسية التى قرأت علاماتها على وجه كل من رأى وجهى وقت الكسر ولم يتمكن من تمييزه.. كفانى كلامًا عن هذا الموضوع فالألم قد بدأ يعاودنى.
المهم أننى عدت للعب الكرة بعد امتحانات الثانوية العامة مباشرة، فليس من المنطقى أن تكون تلك الإصابة مبررًا لأن أقاطع الكرة، فليس كل من يصاب فى حادث سيارة لا قدّر الله يكفّ عن السير فى الشوارع، ولا كل من يصاب بتسمم غذائى يقلع عن تناول الطعام.

فى يوليو من نفس العام، بينما كنت غارقًا فى أحلام الالتحاق بكلية طب الأسنان دون سبب واضح، ظهرت نتيجة التنسيق معلنة أننى أحتاج فقط إلى نصف درجة من أجل الوصول إلى آخر كلية طب أسنان.. قررت أن أعيد تصحيح ورق إجابتى فى مادة الأحياء لعلى أحصل على نصف درجة تنقل مجرى مستقبلى، وفى أثناء تصحيح الأحياء علمت أن هناك أكثر من خطأ فى نموذج إجابة المادة، وتم التصحيح على النموذج الخاطئ ليوم كامل من ثلاثة أيام هى وقت تصحيح أوراق الأحياء بالكامل، ولا أعرف لماذا توقعت أن يطولنى هذا الخطأ، وأننى سأكون أحد ضحايا اليوم الأول للتصحيح.. وقد كان.
عندما رأيت ورقة إجابتى، كانت إجاباتى الصحيحة غير مطابقة لنموذج الإجابة الخاطئ، وبالفعل حصلت على علامة × عن جدارة فى أكثر من نقطة، كلفتنى درجتين كاملتين، أستحق منها درجة ونصف على أقل تقدير، ولكن ما باليد حيلة.
خرجت من غرفة مراجعة الأوراق أكاد لا أرى، غير مصدق أن كل هذا الظلم قد وقع علىّ.. مدركًا أن مجرى حياتى المقبلة سيتغير 360 درجة، بل 630 إن أمكن ذلك.. سأنتقل من أحلامى بطب الأسنان، إلى واقعى الذى أخبرتنى به بطاقة الترشيح.. كلية الإعلام جامعة القاهرة.. من طب أسنان إلى إعلام، أى من الصين إلى الولايات المتحدة.. من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ربما كان فى ذلك خير لى، لكننى وقتها لم أكن أصدق الصدمة.. كيف يمكن لإنسان لا مبالى أن يكتب إجابة خاطئة فى نموذج إجابة تقذف بإنسان آخر إلى غياهب المجهول؟

أحلامى فيما هو قادم.. بسيطة.. فلم أحلم كثيرًا فيما فات وهذه هى سمتى، لا أعرف إذا كان ذلك حسنًا أم لا، ولكنها عادة لا تنفصل عنى.

تُرى كم 25 عامًا يعيشها الإنسان؟ إن زادا على اثنتين فهو خير وبركة.. وإن قلا فهو أخير وأبرك.. فليس هناك ما يستحق الحياة أكثر من ذلك.