٢٩‏/٠١‏/٢٠٠٩

كوكب ليبيا !

الماضي - مهما كان قاسيًا - يتحول إلى ذكريات جميلة بعدما تمر عليه السنون، وكأنما يبرُد الزمن أطراف الماضي المدببة ويهذبها ويحيلها إلى شريط ناعم متجانس من الأحداث، بعضها يثير الشجن وبعضها يقلّب المواجع وبعضها يضيف أبعادًا جديدة إلى الحياة لم نكن نراها من قبل.

ورغم أن أكثر ما تحمله ذاكرتي عن المدة التي عشتها مع أسرتي في ليبيا "من 1993 إلى 1997" كان قاسيًا، إلا أن معظم هذه الذكريات كوميدي هزلي، وهذا أمر لا يتعلق بي شخصيًا، وإنما بطبيعة هذا البلد المسكين المستكين غريب الأطوار، وهذا الشعب المليء - كغيره من الشعوب العربية - بعيوب متأصلة لها جذور راسخة أشك أن تُجتَث ولو بعد ملايين السنين.

في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، يتّبعون القاعدة التي تقول "خالف تُعْرف"، على اعتبار أن السيارة التي تسير في عكس الاتجاه هي الأكثر وضوحًا، وأن الإنسان الذي يمشي على يديه بدلاً من قدميه يكتسب شهرة واسعة، وإن لم يحمل في ذاته قيمة تُذكر.

عن الغرائب والعجائب الليبية حدّث ولا حرج، فالجماهيرية - بخلاف الجمهورية - كلمة تعني - في رأيهم - أن الحركات التاريخية المؤثرة يجب أن تكون حركات جماهيرية وليست جمهورية، على اعتبار أن "الجماهير" كلمة أشمل وأعم من "الجمهور".. والحركة الجماهيرية هي حركة الجماعة من أجل نفسها، أما الحركة الجمهورية فهي حركة قلة من الجماعة من أجل الجماعة بالكامل، وبالتالي فهي حركة قاصرة لأنه ليس من حق أحد أن يكون ممثلاً لأحد أو نائبًا عنه، وفي ليبيا يصرّون على أنهم "أول جماهيرية في التاريخ" ويتجاهلون أنهم - في الوقت ذاته - الجماهيرية الوحيدة في التاريخ، تمامًا كأن يعبد شخص الخشب لمجرد أن يقول إنه أول شخص في التاريخ يعبد الخشب!

رسميًا، تطلق المؤسسات الليبية الكلمات التي يتكون منها اسم الجماهيرية على أسماء أيام الأسبوع، بمعنى أن "الجماهيرية، العربية، الليبية، الشعبية، الاشتراكية، العظمى" تعني "السبت، الأحد، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس"، أما الجمعة فهو هناك بنفس الاسم لاعتبارات دينية!

كما أن الشهور الليبية لها أسماء عجيبة وضعها قائد الثورة، ترمز إلى فصول السنة أو بعض الشخصيات التاريخية أو أشياء أخرى لا أعرفها، وهي كالتالي:

أي النار= يناير، النوار= فبراير، الربيع= مارس، الطير= أبريل، الماء= مايو، الصيف= يونيو، ناصر= يوليو، هانيبال= أغسطس، الفاتح= سبتمبر، التمور= أكتوبر، الحرث= نوفمبر، الكانون= ديسمبر!

هذا بالنسبة لأسماء أيام الأسبوع والشهور، فماذا عن التقويم السنوي؟

لا يوجد في ليبيا - رسميًا - التقويم الميلادي الذي نعرفه ويعرفه العالم، كما أنهم لا يسيرون على التقويم الهجري، وإنما التقويم الشرعي هناك أساسه وفاة الرسول التي كانت سنة 632 من ميلاد المسيح، باعتبارها "الحدث الأهم الذي انقطع فيه الاتصال والتخاطب بين السماء والأرض"، ولك أن تتخيل أنهم يعيشون الآن في عام 1377 و.ر، أما التقويم غير الرسمي هناك فهو "م.ر." أو ميلاد الرسول.

ولكن، ما ذنبي أنا كطفل في الصف الخامس الابتدائي يفتح التلفاز ببراءة، ليرى نشرة الأخبار الليبية، ويظهر على الشاشة مذيع ممتعض الوجه يتمنى أن يتقيأ في وجهك، ويبدأ هذا المذيع صاحب الملابس الغريبة في ترحيب شديد الجفاف بالمشاهدين ويقول:

"إليكم نشرة الأخبار: اليوم الشعبية الثالث عشر من شهر هانيبال لعام 1363 من وفاة الرسول"!

كنت أتساءل: في أي زمن نعيش؟ وفي أي مكان من مجرة درب التبانة؟ هل هذا هو تاريخ اليوم؟ عندنا في مصر كنت أعرف الشهور كما يعرفها خلق الله الأسوياء، ولكن هذا الكلام يحتاج إلى قاموس.. تخيل أن تحتاج قاموسًا لتعرف فقط تاريخ اليوم!

ليس لهذا السبب وحده قررت مقاطعة التلفاز الليبي، ولكن أيضًا لاعتبارات أخرى كثيرة، على رأسها أنه لم يكن هناك سوى محطة وحيدة تبث إرسالها هناك اسمها "الجماهيرية" بالطبع، وكانت "الجماهيرية" تبدأ في العاشرة صباحًا بالنشيد الوطني الليبي "الله أكبر فوق كيد المعتدي"، وبالمناسبة فهذا النشيد من كلمات عبد الله شمس الدين وتلحين محمود الشريف وهما مصريان، وقبل أن يكون نشيدًا وطنيًا لليبيا فهو أغنية مصرية من الأساس!

المهم.. بعد النشيد الوطني الليبي المصري الأصل تبدأ فقرة تستمر قرابة الساعة ونصف تعرف باسم "منزلية التعليم"، وهو برنامج تعليمي لمختلف المراحل التعليمية، فقد كان المسئولون هناك في أمانة التعليم يعرفون أن الكسل هو السمة المميزة لليبيين، وبالتالي فإن الذهاب إلى المدارس أمر في غاية الشقاء لكثير منهم، لذلك قرروا أن ينقلوا لهم التعليم إلى البيوت!

أمانة التعليم؟ نعم.. أية وزارة هناك اسمها أمانة على سبيل التغيير فقط ليس إلا، وأي وزير اسمه "أمين"، لأنه في كل بلاد العالم يسمونها "وزارة" ويسمونه "وزير"، وفي ليبيا يجب أن يكون الأمر مختلفًا بالتأكيد!

بعد منزلية التعليم ينقطع الإرسال من الساعة الثانية عشرة ظهرًا تقريبًا ولا يعود إلا في حوالي الخامسة مساءً، "لاحظ كلمتيْ تقريبًا وحوالي"، ويعود ببرامج الأطفال التي تستمر قرابة الساعة، ومن بعدها تبدأ فقرة تعرف باسم "الهتافات الثورية"!

في هذه الفقرة تبدأ قناة "الجماهيرية" في شرح الاختلافات الكبيرة بين النظام السياسي الليبي عن أي نظام آخر في العالم، وتوضح كم أن الليبيين أناس متحضرون لا يتمكن أحد في العالم مهما بلغت درجة رقيه أن يصل إلى نفس مستواهم من التحضر السياسي والاجتماعي، وتنطلق هذه الفقرة بما يشبه مظاهرات الدعم والتأييد للحكومة الليبية وعلى رأسها قائد الثورة، ثم تقارن بين ما يحدث في جميع أنحاء العالم وما يحدث في ليبيا في صورة "هم.. ونحن"، هم: يتشاجرون ويتناحرون ويضرب بعضهم بعضًا ويتقاذفون بالأحذية، ونحن: نتشاور ونتحاور ونتكلم بحرية وديمقراطية وشفافية!

وبعد ساعتين من هذه الهتافات، تظهر على الشاشة بعض الإعلانات المغرقة في القِدَم لمنتجات لم تعد تطرح في الأسواق من الأساس، تأتي بعدها نشرة الأخبار إياها ذات التاريخ المجهول، ثم مسلسل مصري أو سوري، وكان الله بالسر عليم!

في يوم الخميس، كانت قناة "الجماهيرية" تتعطف على جماهيرها وتذيع فيلمًا سينمائيًا مصريًا، وكنا ننتظر هذا الفيلم بفارغ الصبر لأنه الفيلم الوحيد الذي يذاع في الأسبوع بأكمله، وأتذكر أنهم أفحمونا وأذاعوا فيلم "ناصر 56" في ثلاثة أسابيع متتالية يوم الخميس!

ومن حين لآخر، تظهر بعض البرامج الترفيهية غير منتظمة الموعد، وإذا تجرأ مذيع البرنامج بطرح مسابقة للمشاهدين فقد نال نصيبه من المكالمات الهاتفية، ليس لحل المسابقة بالطبع ولكن لأسباب أخرى، قد يتصل أحد المتفرجين بالبرنامج ليشكو من جاره الذي يلقي عليه القمامة، أو يتصل ليعرف أخبار المذيع وكأنه صديقه منذ الأزل، وعندما يسأله المذيع: "هل تعرف إجابة المسابقة؟"، يقول المتصل بغباء منقطع النظير: "لا إجابة!".

الأغرب أن المذيع لا يبدي أي تذمر مما حدث، ويتلقاه كأنما اعتاد عليه، بل ويطالب المتفرجين بالمزيد من المكالمات التي "يرطلون" فيها باللهجة الليبية: "شخبارك؟ شخبار زوزتك؟ شخبار العويل؟... إلخ"!

في صيف عام 1994 كان كأس العالم يقام في الولايات المتحدة، وتفضل التلفاز الليبي مشكورًا بإذاعة المباريات لكن بأسلوب جديد مختلف ككل شيء هناك، فالنظام السياسي هناك يحرّم على معلقي المباريات النطق باسم أي لاعب، على اعتبار أن هذا اللاعب قد يكتسب شهرة وتزداد شعبيته شيئًا فشيئًا، ومن يدري فقد يلتف حوله الشعب الليبي يومًا ما ويحدث انقلاب يطيح بالسلطة العليا، لذلك عندما كانت الكاميرا تُظهر لاعبًا على الشاشة، كان المعلق يقول ببساطة: "أمامنا هذا اللاعب"، كأنه بلا اسم ولا هوية!

وفي إحدى مباريات هذه البطولة، حاول حارس مرمى إنقاذ كرة ساقطة، فرجع إلى الوراء بسرعة وأبعد الكرة بيده إلى أعلى، ثم سقط - مع اندفاعه القوي - داخل الشباك فانكسرت العارضة الخلفية للمرمى، تخيل ماذا حدث؟

بعد هذه الواقعة بأقل من دقيقة، ظهر شريط مكتوب أسفل الشاشة يشبه أشرطة الأخبار حاليًا، مكتوب به ما معناه أن "الرأسمالية المتعجرفة المتعفنة والشركات الأمريكية العملاقة التي لا هدف لها سوى مص دماء الشعوب وجمع المال منهم بمختلف الطرق وراء رداءة المنتجات التي تنتجها هذه الشركات، وهو ما تجسد واضحًا في هذه العارضة التي انكسرت لمجرد أن حارس المرمى سقط داخل الشباك"!

في "جماهيرية درع الثورة" درست الصفين الأول والثاني الإعدادي، و"جماهيرية " - كما هو واضح - هي اللفظة المرادفة لكلمة "مدرسة" بلغة أهل الأرض، أما أسماء المدارس - أقصد الجماهيريات - هناك فلا بد أن تكون ثورية وطنية، خذ عندك: "جماهيرية درع الثورة، جماهيرية الراية الخضراء، جماهيرية الصقر الوحيد، جماهيرية المجد"، وهكذا!

في العام السابق مباشرة لالتحاقي بالتعليم الإعدادي هناك، كانت تدريس اللغة الإنجليزية تبدأ من الصف الأول الثانوي، أي أن "بغلاً" في الصف الأول الثانوي كان يتعلم "a,b,c" ولا يعرف من الإنجليزية سوى ذلك، وإن تمكن أصلاً من حفظها!

تسببت قضية "لوكربي" الشهيرة في فرض حصار جوي على الجماهيرية، إلا أن هذا الحصار الجوي كان به استثناءات، تتمثل في السماح بالرحلات الجوية من وإلى ليبيا في حالات الحج والعلاج، إلا أنهم - الليبيين - لم يعترفوا بذلك مطلقًا، وكانوا يتشدقون دائمًا بأن مجلس الأمن يمنعهم من السفر إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، وهو كلام غير صحيح بالمرة.

قررت الحكومة الليبية أن تتحدى هذا القرار غير الموجود أصلاً، وانطلقت الطائرات من ليبيا إلى الأراضي المقدسة حاملة الحجيج، مع هتافات الليبيين التي لا تنقطع: "زيد تحدى زيد تحدى.. طياراتك وصلت جدة"، ولا أعرف ما دخل مدينة جدة بالحج!

بعد ذلك ادّعوا أنهم وجدوا مضايقات من مجلس الأمن بسبب رحلات الحج الجوية، فقرروا إعلان التحدي بشكل آخر.. قافلة الحج بالإبل!

كانت الفكرة عبقرية أكثر من اللازم عادت بالأذهان إلى صدر الإسلام.. قوافل الحجيج تنطلق بالجِمال من طرابلس قبيل موسم الحج بحوالي شهرين، تتابعها عدسات التصوير وتلاحقها أينما حطّت، وتقوم بتصويرها في أماكن مختلفة تقع في الطريق بين طرابلس ومكة، وكان قناة "الجماهيرية" تنقل التقارير يومًا بيوم.. قافلة الحج الليبية بالجمال تصل إلى مدينة كذا.. قافلة الحج الليبية تعبر جبال كذا!

وعندما وصلت هذه القافلة إلى مدينة طبرق الساحلية التي كنت أسكنها، عرفنا حقيقة الموضوع.. عربات نقل عملاقة تحمل الجِمال والخيام وكاميرات التصوير، وتنطلق بهم من مدينة إلى مدينة، ومع كل توقف في مدينة ما يتم إنزال الجِمال ونصب الخيام وتصويرها مع حجاج وهميين، ثم تنطلق الرحلة مستكملة طريقها باتجاه السعودية!

كانت تلك مجرد لقطات من ذلك البلد المختلف في كل شيء، والذي أراد أن يثبت أن الاختلاف وحده هو سبيل الشعوب نحو الرخاء والنماء، لكنه فشل في ذلك عن جدارة.

٢١‏/٠١‏/٢٠٠٩

"ب"

كانت بداية اليوم مشرقة مبشرة، رغم أنني صحوت كالعادة بضرب الأحذية تتملكني رغبة مُلحة في النوم لمدة أسبوع كامل دون أن يوقظني أحد، أجريت طقوس الصباح المعتادة وغادرت الشقة مسرعًا، ومع صوت غلق الباب تذكرت - كالعادة - أنني نسيت عشرات الأشياء بالداخل، قلت لنفسي: مادام مفتاح الشقة في جيبي فلا مشكلة إذن، تحسست بيديَّ الاثنتين جيوبي من الخارج فلم أشعر بوجود مفاتيحي رغم أنها معلقة في ميدالية كبيرة عامرة بالمفاتيح تشبه سلاسل مفاتيح اللصوص، وعرفت على الفور أن أهم شيء نسيته داخل الشقة هو المفاتيح التي احتفظت بها داخل جيب بنطال، إلا أنني ارتديت واحدًا آخر هذا الصباح.. يا للبداية الرائعة لليوم.

كنت منذ حوالي شهر قد غطيت موضوع إخراج سجينة من سجن النساء بالقناطر لمجلة ما.. سجينة لأنها اشترت أجهزة كهربائية بالقسط لجهاز شقيقتها، على اعتبار أنها ستتعاون مع والدتها تاجرة الخضراوات على سداد الأقساط الشهرية، إلا أن الرياح أتت كالعادة بما لا تشتهي السفن، بالمناسبة لا أعرف متى تأتي الرياح بما تشتهي السفن، وتوفيت والدة السجينة "ب" بعد أن دهستها سيارة بجوار سوق العبور وهي تشتري بضاعة.

المهم أن النهاية المعروفة أن "ب" تعثرت في السداد وتراكمت عليها المديونيات، وأن الدائن رفع عليها قضية دخلت بها السجن، لكنها ليست مجرمة بأي حال من الأحوال، وذلك النوع من السجينات تطلق عليه المجلة اسم "سجينات الفقر" لتمييزهن عن باقي السجينات.

وُفِّقَت الجمعية المعنية برعاية أطفال السجينات والتي تصدر عنها المجلة في تدبير المبلغ المطلوب من "ب"، وتم توفير الدعم القانوني لها عن طريق أحد المحاميين، وحضرت بنفسي تسليم ديونها إلى الديَّانة، وخرجت "ب" لتشم نسيم الحرية بعد ثلاث سنوات من السجن مرت عليها كثلاثة قرون، نسيت أن أقول إن "ب" لديها ثلاثة أطفال كبيرهم في الحادية عشرة من عمره، وصغيرهم كان معها داخل السجن.

ذهبت إلى بيت "ب" بإحدى القرى البدائية للغاية في محافظة القليوبية لكي أكتب عنها تحقيقًا صحفيًا للمجلة، لكنني لم أجدها، ووجدت فقط زوجها الذي يعمل أرزقيًا فيجد عملاً يومًا ويظل شهرًا بلا عمل، بينما كانت هي مشغولة بإنهاء إجراءات الإفراج عنها في المحكمة، فأجريت التحقيق مع زوجها وطفلها الأكبر الذي ظهر فجأة في الغرفة التي جلسنا فيها وعيناه مليئتان بالتساؤلات تجاهي.. من هذا الغريب؟ وماذا يعرف عن ماما؟ هل سيأخذها من جديد بعد أن عادت من السفر؟ فلماذا يسأل بابا تلك الأسئلة؟.. كان بيتها متواضعًا وضيقًا للغاية، ولمست سعادة كبيرة في وجه زوجها بعد أن خرجت زوجته إلى الحياة مرة أخرى، بصرف النظر عن الريبة التي اعتلت وجه الطفل.

فلنعد إلى البداية، كان اليوم المذكور موعد ما نسميه بـ"الرعاية اللاحقة" للسجينة.. نذهب إليها بعد أن خرجت من السجن لنفتح لها مشروعًا صغيرًا تتكسب من ورائه وتتمكن - إلى حدٍ ما - من سداد أقساطها المتأخرة، ذهبت وبصحبتي المصور إلى بيتها، وضللنا الطريق رغم أننا هناك للمرة الثانية، لأن المكان أشبه بمغارة علي بابا، طرق وطرقات ضيقة ملتوية بائسة، ثمة أطفال بدون ملابس - رغم برد الصباح القارس- يجرون هنا وهناك، وبائعة طاعنة في السن تجلس أمام دارها لتبيع بقايا خبز يبدو أنه تعفن، أما ما يمكن أن نسميه "سوبر ماركت القرية" فكان مجرد كشك خشبي أخضر اللون لا يزيد طوله على مترين وعرضه على متر ونصف.

وصلنا إلى بيت "ب" بمساعدة أحد أهالي القرية، بعد أن عرف صغيرها قبل كبيرها أن هناك غرباء يطوفون أرجاءها ويبحثون عن شيء ما، وأنا أسأل الرجل الدليل على بيتها لمحت على زاوية فمه ابتسامة ساخرة، فشككت في الأمر وتوقعت أن هناك مفاجأة ما في انتظاري، وكان حدسي صحيحًا، لأن ما حدث كالتالي....

طرقت باب الشقة عدة طرقات فلم يفتح أحد، خمنت أن "ب" وزوجها وأطفالها نائمون، فطرقت بعنف حتى سمعت صوتها من الداخل.. من؟.. قلت.. أنا فلان وجئت من أجل كذا، فتحت الباب لأجد امرأة أخرى، نعم هي ليست "ب" التي جئت من أجلها.

- أين "ب"؟
- ليست هنا.
- وأين زوجها؟
- ليس هنا أيضًا.
- إذن من أنتِ؟
- أنا زوجته الجديدة؟
- و"ب"؟
- لقد طلقها فور خروجها من السجن!

تراجعت إلى الخلف مترنحًا كما يحدث في أفلام السينما، وأغمضت عينيّ للحظة أبتلع تلك الكلمات القاسية التي وقفت في حلقي، كانت الألفاظ التي أبحث عنها لأسبّ هذا الرجل لا تطيعني، فكنت أبحث عن سباب مناسب لهذا الندل، الذي تخلى عن زوجته وهو يعرف أنها غير مذنبة.

- وأين لي أن أجدها؟
- في بيت أهلها.
- وهل هناك رقم هاتف؟
- نعم لكنه مع زوجي.
- أعطني رقم زوجك.

عبر شبكات المحمول التالفة وصلني صوت الرجل متقطعًا، ذكرته بسرعة بهويتي وطلبت منه رقم هاتف "ب" فأعطاني إياه، لكنه قال لي إنها في الغالب لن ترد عليّ، وأعطاني رقمًا آخر لشقيقتها.

كما توقع تمامًا انتهت أجراس هاتفها إلى لا شيء، فجربت أن أتصل بشقيقتها، وعندما جاءني صوتها وسمعت اسم "ب" ارتجف صوتها من الخوف، وقدّرَت أنني واحد من الديّانة، فقالت بارتباك إن "ب" ليست في البيت، تفهمت موقفها وأوضحت لها الأمر وقلت إنني هنا لمساعدتها ليس لمطالبتها بالمال، فأقسمت أنها تركت البيت منذ أيام.

فقدْت الأمل في أن أجد ضالتي، وعدت إلى القاهرة ورأسي يغلي ويفور على جانبي جسدي.. أين ذهبت تلك البائسة؟ وما مصير أطفالها؟ هل هي عند أهلها ولم تتحدث إليّ لأنها خائفة؟ كيف تعيش ومن أين تنفق؟ هل ستسدد باقي أقساطها؟ هل ستعود إلى السجن مرة أخرى؟ أسئلة دارت في ذهني كالدبابير.

أنا لا أملك ترف الإصابة بالاكتئاب، لأنه مرض يصيب من يعانون المساحة الزمنية الكافية للإصابة به، أما إيقاع الحياة السريع فلا يناسب هذا المرض تمامًا، لكن باقي اليوم مر عليّ ثقيلاً مليئًا بالهموم، وكنت لا أطيق أي شيء.. حتى أفكاري التي تجول في مخي لم أطيقها.. كرهت كل شيء وتمنيت أن أروح في غيبوبة طويلة نوعًا أفيق منها إنسانًا جديدًا لم يسافر إلى القليوبية صباح الأربعاء.

مع حلول الليل، وفي حوالي الساعة السادسة، وجدت رقم "ب" على شاشة هاتفي، تملكتني مشاعر مختلفة بين الدهشة والفرح والخوف، رددت عليها وأخبرتها بسرعة بما دار في اليوم، قالت لي إنها ستأتي إلى مقر عملي لتعرف ما كنا ننوي تقديمه لها.. وها أنا ذا أنتظر.