٢١‏/٠١‏/٢٠٠٩

"ب"

كانت بداية اليوم مشرقة مبشرة، رغم أنني صحوت كالعادة بضرب الأحذية تتملكني رغبة مُلحة في النوم لمدة أسبوع كامل دون أن يوقظني أحد، أجريت طقوس الصباح المعتادة وغادرت الشقة مسرعًا، ومع صوت غلق الباب تذكرت - كالعادة - أنني نسيت عشرات الأشياء بالداخل، قلت لنفسي: مادام مفتاح الشقة في جيبي فلا مشكلة إذن، تحسست بيديَّ الاثنتين جيوبي من الخارج فلم أشعر بوجود مفاتيحي رغم أنها معلقة في ميدالية كبيرة عامرة بالمفاتيح تشبه سلاسل مفاتيح اللصوص، وعرفت على الفور أن أهم شيء نسيته داخل الشقة هو المفاتيح التي احتفظت بها داخل جيب بنطال، إلا أنني ارتديت واحدًا آخر هذا الصباح.. يا للبداية الرائعة لليوم.

كنت منذ حوالي شهر قد غطيت موضوع إخراج سجينة من سجن النساء بالقناطر لمجلة ما.. سجينة لأنها اشترت أجهزة كهربائية بالقسط لجهاز شقيقتها، على اعتبار أنها ستتعاون مع والدتها تاجرة الخضراوات على سداد الأقساط الشهرية، إلا أن الرياح أتت كالعادة بما لا تشتهي السفن، بالمناسبة لا أعرف متى تأتي الرياح بما تشتهي السفن، وتوفيت والدة السجينة "ب" بعد أن دهستها سيارة بجوار سوق العبور وهي تشتري بضاعة.

المهم أن النهاية المعروفة أن "ب" تعثرت في السداد وتراكمت عليها المديونيات، وأن الدائن رفع عليها قضية دخلت بها السجن، لكنها ليست مجرمة بأي حال من الأحوال، وذلك النوع من السجينات تطلق عليه المجلة اسم "سجينات الفقر" لتمييزهن عن باقي السجينات.

وُفِّقَت الجمعية المعنية برعاية أطفال السجينات والتي تصدر عنها المجلة في تدبير المبلغ المطلوب من "ب"، وتم توفير الدعم القانوني لها عن طريق أحد المحاميين، وحضرت بنفسي تسليم ديونها إلى الديَّانة، وخرجت "ب" لتشم نسيم الحرية بعد ثلاث سنوات من السجن مرت عليها كثلاثة قرون، نسيت أن أقول إن "ب" لديها ثلاثة أطفال كبيرهم في الحادية عشرة من عمره، وصغيرهم كان معها داخل السجن.

ذهبت إلى بيت "ب" بإحدى القرى البدائية للغاية في محافظة القليوبية لكي أكتب عنها تحقيقًا صحفيًا للمجلة، لكنني لم أجدها، ووجدت فقط زوجها الذي يعمل أرزقيًا فيجد عملاً يومًا ويظل شهرًا بلا عمل، بينما كانت هي مشغولة بإنهاء إجراءات الإفراج عنها في المحكمة، فأجريت التحقيق مع زوجها وطفلها الأكبر الذي ظهر فجأة في الغرفة التي جلسنا فيها وعيناه مليئتان بالتساؤلات تجاهي.. من هذا الغريب؟ وماذا يعرف عن ماما؟ هل سيأخذها من جديد بعد أن عادت من السفر؟ فلماذا يسأل بابا تلك الأسئلة؟.. كان بيتها متواضعًا وضيقًا للغاية، ولمست سعادة كبيرة في وجه زوجها بعد أن خرجت زوجته إلى الحياة مرة أخرى، بصرف النظر عن الريبة التي اعتلت وجه الطفل.

فلنعد إلى البداية، كان اليوم المذكور موعد ما نسميه بـ"الرعاية اللاحقة" للسجينة.. نذهب إليها بعد أن خرجت من السجن لنفتح لها مشروعًا صغيرًا تتكسب من ورائه وتتمكن - إلى حدٍ ما - من سداد أقساطها المتأخرة، ذهبت وبصحبتي المصور إلى بيتها، وضللنا الطريق رغم أننا هناك للمرة الثانية، لأن المكان أشبه بمغارة علي بابا، طرق وطرقات ضيقة ملتوية بائسة، ثمة أطفال بدون ملابس - رغم برد الصباح القارس- يجرون هنا وهناك، وبائعة طاعنة في السن تجلس أمام دارها لتبيع بقايا خبز يبدو أنه تعفن، أما ما يمكن أن نسميه "سوبر ماركت القرية" فكان مجرد كشك خشبي أخضر اللون لا يزيد طوله على مترين وعرضه على متر ونصف.

وصلنا إلى بيت "ب" بمساعدة أحد أهالي القرية، بعد أن عرف صغيرها قبل كبيرها أن هناك غرباء يطوفون أرجاءها ويبحثون عن شيء ما، وأنا أسأل الرجل الدليل على بيتها لمحت على زاوية فمه ابتسامة ساخرة، فشككت في الأمر وتوقعت أن هناك مفاجأة ما في انتظاري، وكان حدسي صحيحًا، لأن ما حدث كالتالي....

طرقت باب الشقة عدة طرقات فلم يفتح أحد، خمنت أن "ب" وزوجها وأطفالها نائمون، فطرقت بعنف حتى سمعت صوتها من الداخل.. من؟.. قلت.. أنا فلان وجئت من أجل كذا، فتحت الباب لأجد امرأة أخرى، نعم هي ليست "ب" التي جئت من أجلها.

- أين "ب"؟
- ليست هنا.
- وأين زوجها؟
- ليس هنا أيضًا.
- إذن من أنتِ؟
- أنا زوجته الجديدة؟
- و"ب"؟
- لقد طلقها فور خروجها من السجن!

تراجعت إلى الخلف مترنحًا كما يحدث في أفلام السينما، وأغمضت عينيّ للحظة أبتلع تلك الكلمات القاسية التي وقفت في حلقي، كانت الألفاظ التي أبحث عنها لأسبّ هذا الرجل لا تطيعني، فكنت أبحث عن سباب مناسب لهذا الندل، الذي تخلى عن زوجته وهو يعرف أنها غير مذنبة.

- وأين لي أن أجدها؟
- في بيت أهلها.
- وهل هناك رقم هاتف؟
- نعم لكنه مع زوجي.
- أعطني رقم زوجك.

عبر شبكات المحمول التالفة وصلني صوت الرجل متقطعًا، ذكرته بسرعة بهويتي وطلبت منه رقم هاتف "ب" فأعطاني إياه، لكنه قال لي إنها في الغالب لن ترد عليّ، وأعطاني رقمًا آخر لشقيقتها.

كما توقع تمامًا انتهت أجراس هاتفها إلى لا شيء، فجربت أن أتصل بشقيقتها، وعندما جاءني صوتها وسمعت اسم "ب" ارتجف صوتها من الخوف، وقدّرَت أنني واحد من الديّانة، فقالت بارتباك إن "ب" ليست في البيت، تفهمت موقفها وأوضحت لها الأمر وقلت إنني هنا لمساعدتها ليس لمطالبتها بالمال، فأقسمت أنها تركت البيت منذ أيام.

فقدْت الأمل في أن أجد ضالتي، وعدت إلى القاهرة ورأسي يغلي ويفور على جانبي جسدي.. أين ذهبت تلك البائسة؟ وما مصير أطفالها؟ هل هي عند أهلها ولم تتحدث إليّ لأنها خائفة؟ كيف تعيش ومن أين تنفق؟ هل ستسدد باقي أقساطها؟ هل ستعود إلى السجن مرة أخرى؟ أسئلة دارت في ذهني كالدبابير.

أنا لا أملك ترف الإصابة بالاكتئاب، لأنه مرض يصيب من يعانون المساحة الزمنية الكافية للإصابة به، أما إيقاع الحياة السريع فلا يناسب هذا المرض تمامًا، لكن باقي اليوم مر عليّ ثقيلاً مليئًا بالهموم، وكنت لا أطيق أي شيء.. حتى أفكاري التي تجول في مخي لم أطيقها.. كرهت كل شيء وتمنيت أن أروح في غيبوبة طويلة نوعًا أفيق منها إنسانًا جديدًا لم يسافر إلى القليوبية صباح الأربعاء.

مع حلول الليل، وفي حوالي الساعة السادسة، وجدت رقم "ب" على شاشة هاتفي، تملكتني مشاعر مختلفة بين الدهشة والفرح والخوف، رددت عليها وأخبرتها بسرعة بما دار في اليوم، قالت لي إنها ستأتي إلى مقر عملي لتعرف ما كنا ننوي تقديمه لها.. وها أنا ذا أنتظر.

هناك ٧ تعليقات:

Dina Samaha يقول...

أولا من موقعى هذا بنشكر الأستاذة "ب"
اللى كانت الدافع ورا كتابة البوست ده... :D

مش عارفين نقولها إيه بصراحة..والشكر قليل عليها

فى جزء عجبنى أوي:

"أنا لا أملك ترف الإصابة بالاكتئاب، لأنه مرض يصيب من يعانون المساحة الزمنية الكافية للإصابة به، أما إيقاع الحياة السريع فلا يناسب هذا المرض تمامًا"

صح مليون فى المية.. اعتقد كمان هو مرض بيصيب اشخاص انا بسميهم شخصيات درامية.. يعني معندهاش مناعة كافية لرفض المرض وسهل انها تعيشه وبتستلم ليه كمان.

صحيح لو ماكنتش نسيت المفتاح كان ممكن اليوم يكون غير كده خالص و "ب" مكانتش اطلقت وكانت ردت عليك لمااتصلت بيهاوالراجل جوزهاالندل ماكنش اتجوز عليها وماكنش....

ما علينا اللى حصل حصل ماتنساش المفاتيح تاني بقى :P

Mai Kamel يقول...

ايوة وبعدين؟؟
كلمتك؟؟ هتعملولها ايه؟؟
فين الجزء التاني بتاع القصة؟

Unknown يقول...

حلو يا مهند .

انا مستنى الموضوع الجاى .

أحلى حياة يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ايه اخبار "ب" دلوقتي؟
جت فعلا وساعدتوها وظروفها اتحسنت واستقرت ولا لسه؟؟؟

بجد عايزه اطمن عليها اوي بجد
ربنا معاها يارب.. اللهم آمين

ياريت لو في جديد فعلا حضرتك تعمل تكمله للبوست دا وتطمنا عليها قريب إن شاء الله ... بإذن الله
جزاك الله خيرا كثيرا يارب :))

تحياتي :)

مـهـنـد يقول...

هي فعلا كلمتني وهقابلها الأسبوع الجاي إن شاء الله «غالبًا السبت».. لما قصتها تكمل هكتبها كلها.. بس على فكرة، مش أنا اللي بساعدها.. أنا بس بحرر الموضوعات دي للمجلة مش أكتر....

أحلى حياة يقول...

حصل ايه مع "ب" صحيح ياأستاذ مهند؟

Fathy Samir يقول...

طب يا عم مهندس عملت ايه في المفاتيح،،ودخلت إزاي؟؟؟؟
رائع يا شناوي